فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}.
هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر.
وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم.
والجواب من وجهين:
الأول: أن الولاية المنفية في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} هي ولاية الميراث أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن الذي لم يهاجر حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. الآية.
وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير والولاية في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}. الآية.
فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله ما لكم من ولايتهم من شيء فدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر فظهر أن الولاية المنفية غير المنثبتة فارتفع الإشكال.
الثاني: هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني لا نصيب لكم من المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال وعليه فلا إشكال في الآية ولا مانع من تناول الآية للجميع فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنه في قوله: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} قال: إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل. منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم، وفي قوله: {والذين آووا ونصروا} وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان جعل الله بعضهم أولياء بعض، وفي قوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} قال: كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن لم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، فبوأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال الله: {ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} وكان حقًا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، ولا نصر لهم عليهم إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم، ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك: أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا ولم يهاجروا، فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبًا مفروضًا لقوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} [الأنفال: 75].
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، فآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء، وبين الزبير بن العوّام وعبد الله بن مسعود وبين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع. وقال لسائر أصحابه: تآخوا وهذا أخي- يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال: فأقام المسلمون على ذلك حتى نزلت سورة الأنفال، وكان مما شدد الله به عقد نبيه صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا} إلى قوله: {لهم مغفرة ورزق كريم} فأحكم الله تعالى بهذه الآيات العقد الذي عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، يتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيمًا بمكة من ذوي الأرحام والقرابات، فمكث الناس على ذلك العقد ما شاء الله، ثم أنزل الله الآية الأخرى فنسخت ما كان قبلها فقال: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام} والقرابات ورجع كل رجل إلى نسبه ورحمه، وانقطعت تلك الوراثة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} يعني في الميراث، جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء} ما لكم من ميراثهم شيء {حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين} يعني إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدولهم فعليهم أن ينصروهم {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} فكانوا يعلمون على ذلك حتى أنزل الله تعالى هذه الآية: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فنسخت التي قبلها وصارت المواريث لذوي الأرحام.
وأخرج أبو عبيدة وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} قال: كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها هذه الآية: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا} قال: كان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا المهاجر يرث الأعرابي حتى فتحت مكة ودخل الناس في الدين أفواجًا، فأنزل الله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} قال: نزلت هذه الآية فتوارثت المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر المسلم شيئًا حتى نسخ ذلك بعد في سورة [الأحزاب: 6] {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} فخلط الله بعضهم ببعض وصارت المواريث بالملل.
وأخرج أحمد ومسلم عن بريدة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، وقال: «اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين واعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن آتوا فأقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم».
وأخرج أحمد وابو داود والنسائي والحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} قال: نهى المسلمون عن أهل ميثاقهم فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة وحقًا والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {مِن ولايتهم}
قرأ حمزة هنا، وفي الكهف {الولاية لِلَّه} هو، والكسائي بكسر الواو، والباقون بفتحها.
فقيل: لغتان.
وقيل: بالفتحِ من المَوْلَى يقال: مَوْلَى بيِّن الولاية، وبالكسر من ولاية السلطان.
قاله أبُو عبيد.
وقيل: بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب، وبالكسر من الإمارة.
قاله الزَّجَّاجُ قال: ويجوز الكسرُ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضًا جنسًا من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطية والقصارة، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ، وهو المُخْطِئ، لتواترها.
وقال أبُو عبيدٍ: والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين.
وقال الفارسي: الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ، وعكس الفرَّاءُ هذا، فقال يُريدُ من مواريثهم، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعًا.
قوله: {حتَّى يُهاجِرُوا} يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقًا فأزال الله هذا الوهم بقوله: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} أي: أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية.
قوله تعالى: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر}.
لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا: «لو استنصروكم فانصروهم» ولا تخذلوهم.
قوله: {فَعَليْكُم النَّصْرُ} مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ {عَلَى} تُشعرُ بالوُجُوبِ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ، وشَبَّهه بقوله: [الطويل]
عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم ** وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ

قوله: {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي: لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك.
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ السلمي والأعرج: {يَعْمَلُون} بياء الغيبةِ وكأنه التفات، أو إخبار عنهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قال تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض} وفي سورة براءة: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} فتقدم في آية براءة قوله: {في سبيل الله} على قوله: {بأموالهم وأنفسهم} وفي الأنفال عكس ذلك فللسائل أن يسأل عن وجه ذلك وخصوص كل من السورتين بما خصت به؟
والجواب عن ذلك أن آية الأنفال مقصود فيها مع المدحة تعظيم الواقع منهم من الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس وتغبيطهم بما من الله عليهم به من ذلك وتفخيم فعلهم الموجب لموالاة بعضهم بعضا فقدم ذكر الأموال والأنفس تبيها معرفا بموقع ذلك من النفوس وأنهم بادروا بها على حبها وشح الطباع بها كقوله: {وآتى المال على حبه} وليس تأخير هذا المجرور كتقديمه لأنه إنما يقدم حيث يقصد اعتناء وتخصيص وتنبيه على موقعه ومن نحو هذا قال تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} وقد تقدم هنا فإنما قدم هذا تغبيطا لهم وإعظاما لفعلهم.
أما آية براءة فتعريف بأمر قد وقع مبنى على التعريف بالمفاضلة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وبين من آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله بماله ونفسه بقصد رد من ظن أن السقاية وعمارة المسجد الحرام أفضل وعرف أن الإيمان وما ذكر معه أعظم درجة عند الله فلم يعرض هنا داع إلى تقديم ما قدم في الأخرى فتمخضت فضيلة ذلك المجرور هنا فأخر.
وقد نص سيبويه رحمه الله على أن المجرور إنما يقدم حيث يكون مستقرا ويعنى بذلك الخبر نحو: عندك مال {ولكم في الأرض مستقر} والقصد تخصيص كناية الإخلاص والتخصيص مقصود في آية الأنفال ولم يقصد ذلك في براءة ولا وقع المجرور فيها خبرا فوجب بمقتضى اللسان أن يقدم في آية الأنفال قوله: {بأموالهم وأنفسهم} ويؤخر في سورة براءة وقد وقع في كل زاحدة من الآيتين في كل من السورتين ما استدعى اتصال ما بعده به ولم يكن ايناسب لورود العكس فوضح وجه تخصيص الواقع في كل من السورتين بموضعه والله أعلم. اهـ.